الجنرال ويغان في بكركي

في المكتبات الخاصة والعامة، ولاسيما القديمة منها، مؤلفات نفيسة وضعها مسافرون، ورحالة، وعلماء، واثريون اجانب ضمنوها بحوثا، وتحقيقات، وتدقيقات علمية وادبية وتاريخية واثرية ذات قيمة. بعض هذه الكتب ترجم الى العربية كاملا او جزئيا ونشر، بينما بقي البعض الآخر من دون ترجمة رغم ما يحتويه من الفوائد، ومن الاخبار التي تستطاب معرفتها والتبصر بها، ومن المؤسف ان تصبح هذه الكتب نادرة وغير معروفة لدى كثيرين في بلادنا.
بحوث هؤلاء العلماء الاجانب الذين اموا بلادنا في ازمنة مختلفة واحوال معينة، لم تكن ثمرة مرور عابر، ونقل مسموعات واقاويل ومفترضات وصلت اليهم فتبنوها وطعموها باستنتاجاتهم واهدافهم السياسية وميولهم العقائدية كما يظن البعض، بل هي، بكل تأكيد، حصيلة دروس اضافية وفحوص دقيقة قاموا بها بجد ونشاط ومعرفة خدمة للعلم والتاريخ والحقيقة. ومن غرائب المفارقات ان الذين يرتابون بمندرجاتها ووقائعها هم السباقون الى الاستشهاد بها، واستعارة مقتطفات منها، تدعيما لكتاباتهم وتعزيزا لآرائهم. 

الجنرال مكسيم ويغان (1923 – 1924).

المؤلفون الذين نعنيهم اغلبهم من الكتّاب، ولكن ثمة مؤلفين من الحكام العسكريين والمدنيين الكبار الذين اداروا مقدرات بلادنا زمن الانتداب ووضعوا مذكراتهم بأنفسهم او فوضوا الى غيرهم كتابتها بعد تزويدهم الاخبار والوثائق المحلية والعامة، فصدرت كتبا غير مترجمة في علمنا، ومنهم المفوضون السامون:
- الجنرال ويغان، المفوض السامي الثالث، وعنوان كتابه الاول: "عودة الى الخدمة"، 1950، والثاني "سراب وحقيقة"، 1957، وهما من اصدارات دار النشر "فلاماريون".
- الجنرال سراي، وعنوان كتابه "صمت الجنرال سراي"، حققه بول كوبلوتز، 1930.
- المسيو غبريال بيو، واسم كتابه "سنتان في الشرق: 1939 – 1940 "، صدر عن دار النشر "هاشيت".
- الجنرال دنز، واسم الكتاب "الجنرال دنز، باريس 1940 – سوريا 1941"، حققه اندريه لافارج، وهو عن مسيرة هذا القائد، قدم له الجنرال ويغان.
وهذه الكتب من محتويات مكتبتنا.

البطريرك الياس الحويك (1843 – 1931).

استقى هؤلاء الحكام الادباء عناصر مؤلفاتهم من اختباراتهم الشخصية، ومن المصادر والمراجع الموثوق بها، ومن الاطلاع على الوثائق والمستندات، ومن زيارة الاماكن الاثرية والتاريخية، ومن تعمقهم في الدروس عبر الوسائل الرسمية والخاصة الموضوعة في تصرفهم، وبما لهم من سلطة وقدرة، فجاءت كتاباتهم غاية في المعرفة والدقة والصدق. 
نتناول في ما يأتي جانبا من كتاب الجنرال مكسيم ويغان "سراب وحقيقة".

قصر الصنوبر.

قال ويغان: "اعلمني المسيو بوانكاريه ان مجلس الوزراء قرر تعييني مفوضا ساميا في بيروت بدلا من الجنرال غورو الذي شغل هذا المنصب طوال اربع سنوات. وكانت الحكومة قد فكرت اولا في تعيين شخص مدني خلفا له، ولكن احتمالات الحرب التي كانت لا تزال قائمة مع تركيا حملتها على ان تبقي في الشرق رجلا عسكريا مفوضا ساميا وقائدا اعلى لجيش الشرق، لذا وقع اختيارها علي بالاتفاق مع المارشال فوش، وكان بوانكاريه ينتظر قبولي هذا العرض لينشر التعيين في الجريدة الرسمية".
في 9 أيار 1923 وصل الجنرال ويغان الى بيروت ونزل في قصر الصنوبر، واتخذ من السرايا الكبيرة مركزا له، وتعرَّف الى معاونيه، وكبار الموظفين، من فرنسيين ووطنيين وانصرف الى تنظيم الاعمال.
تحدّث ويغان في احد فصول كتابه فقال: "ان العمل الذي قام به الجنرال غورو بانشائه لبنان الكبير احيا الولاية القديمة (المتصرفية) جسما وروحا، وتزويد لبنان الكبير سكانا وموارد جديدة امَّن له وجودا ممكنا كدولة مستقلة. وهذا التكبير رفع عدد السكان الى نحو 700,000 نسمة، وهو يمثّل عددا متوازيا بين المسيحيين والمسلمين. وكان من جراء هذا الانشاء الموافق للحياة الاقتصادية للدولة الجديدة تعديل المشكلة السياسية، اذ لم تبق السلطة من نصيب المسيحيين وحدهم، بل صار تنظيمها بحيث تشترك فيها الطائفتان بصورة عادلة تبعد اللجوء الى العنف. 
فالمسيحيون كانوا يعتبرون ان الوقت قد حان ليصار الى انصافهم باستعمال عملة الاستخفاف والضرر والقسوة التي دفعت لهم زمن السيطرة العثمانية. ولم يكن مفهوم المسلمين طبعا على هذا الشكل، لأنهم حرصوا على ان يتمتعوا، انصافا لهم، بكامل الحقوق السياسية التي تضمنها لهم المساواة العددية نفيا للاحقاد والخصومات. وهذا عمل تهدئة كانت الوصاية الفرنسية تتشبث بتحقيقه عبر سلطة حازمة وعطوفة وعدالة متساوية بين الجميع. 
كان ممثلو فرنسا، في تقيدهم بهذه المبادئ، يعملون في الآن نفسه في الاتجاه الذي ترسمه لهم انبل التقاليد والالتزامات، بوصف بلادهم دولة مسيحية كبرى اصبحت في مدى قرن دولة اسلامية مهمة. لم يكن عبثا، من أجل الحكم على ذلك، ان يصار الى معرفة أوسع لهذين العنصرين اللذين يتألف منهما السكان اللبنانيون. 
المسيحيون منقسمون الى عدد كبير من الطوائف، ونتكلم عن اهمها: ثلاث منها متحدة مع روما: الموارنة، والروم الكاثوليك، والسريان الكاثوليك. والروم الارثوذكس يؤلفون طائفة كبيرة العدد. بعددهم ونفوذهم يشغل الموارنة الصف الاول. وثمة صداقة قديمة تجمع ما بين "الامة" المارونية وفرنسا التي اسرعت الى تلبية طلب أوروبا عام 1860 بحماية الموارنة. وعام 1919 قدم البطريرك الماروني الى باريس ليطلب الى مؤتمر الصلح ان يعهد الى فرنسا في الوصاية على لبنان.
البطريرك المونسنيور الحويك يتمتع في الجبل اللبناني بمقام وسلطة شخصية كبيرين، دل عليهما الاستقبال المملوء عطفا واحتراما الذي وفَّره له المسيو بوانكاريه والمسيو كليمنصو. للبطريرك مقران، فالمركز الشتوي يشرف على جون جونيه، والآخر مركزه في ملء الجبل على حافة منحدر نهر قاديشا، غير بعيد من غابة الارز المشهورة التي هي مقدس لبنان وحرمه. بوصفه رئيسا سياسيا ودينيا فهو يعيش عيشة اقطاعي كبير. في ايام الاعياد، او عند زيارة احدى الشخصيات الكبيرة، يفتح القصر البطريركي ابوابه لجمهور المؤمنين الذين يسارعون دوما الى الاحاطة برئيسهم الروحي. تتوالى على مائدته وجبات الطعام، ويتقدم اليها اشخاص من عامة الشعب. وهناك على الاخص في الديمان، المركز الصيفي، يجب رؤية البطريرك في المقر القديم الذي لم تتغير هيئته على مدى القرون، وفي هذا الحصن الذي تحميه، عند الاقتضاء، المعوقات الطبيعية، وارتفاعه عن البحر، ولاسيما صدور الجبليين، يقيم البطريرك في كرسي سلطته الروحية والزمنية. 
تأثرت المحافل الماسونية عندما قلت للبطريرك الحويك: "ان تسلمي مقاليد وظيفتي في لبنان بقي ناقصا حتى اليوم الذي تمكنت فيه من المجيء لتحيتكم في الديمان". عبّرت في ذلك، بسلامة نية، عن حقيقة اساسية. يعاون البطريرك الماروني عدد من الاساقفة يتميز بينهم المونسنيور عبدالله الخوري النائب العام، وهو تلميذ قديم للمعهد الاكليريكي في باريس. 
في ايام الاحتفالات يزيد حضور جميع الاساقفة الذين مراكزهم غير بعيدة في روعة الاستقبال. في يوم الزيارة استقبل المفوض السامي، عند ترجله من السيارة، النائب العام، فاجتاز دارا صغيرة عند منتهاها سلّم وسيعة تؤدي الى مقاصير البطريرك، وفي اعلى هذه السلّم وقف غبطته يحيط به الاساقفة ورؤساء الاساقفة، فتألَّف من الجميع موكب تابع سيره حتى دخل بهو الاستقبال الوسيع حيث جلس البطريرك وضيفه في صدر المكان واحتل الحاضرون المقاعد المرصوفة على دائر البهو، وبعد الطواف بفناجين القهوة التقليدية بدأت المحادثة. 
عندما يتجاوز الامر الاشياء الاحتفالية الى المسائل الرسمية فالمراسم تُخَفَّض. واذا اراد البطريرك، الذي يجيد الفرنسية، اجراء محادثة "خاصة" فإنه يقود محدثه الى الغرفة المجاورة. ونوعية الأساقفة الموارنة الآتين من الاديار تزداد رفعة بوجود عدد منهم خريج المعهد الاكليريكي في سان سولبيس، كما ان بعضهم امضى ايضا سنوات عدة في روما. اما الاكليروس العلماني فيبدو غالبا غير مُعَدّ اعدادا كافيا لوظيفته الكهنوتية، اذ ليس في استطاعة التدريب القصير الامد الذي يجري في الديورة ان يقوم مقام الاعداد المتمهل والعميق الذي يتوافر في المعهد الاكليريكي، وتاليا فإن هذا الاكليروس، الذي يتمتع بنفوذ كبير نظرا الى ورع الاهلين، لا يقيم الدليل على روحانية جد عالية. يصعب على البطريرك ومجالسيه ان يفهموا كيف ان مجيء الفرنسيين لم يحقق ما لهم من ثأرات آتية من الماضي، ويعتبرون كل عمل منصف نحو خصومهم مظلمة لهم، وبديهي ان العدالة الفرنسية لا تكمن في مثل ذلك".
تواصلت الزيارات بين المفوض السامي والبطريرك، تسودها علاقات كانت، رغم مظاهرها الودية، غير حميمة لاختلاف الآراء، والاهداف، والنيات.

في 29 تشرين الثاني 1924 نقلت الحكومة الفرنسية الجنرال ويغان من مركزه في الشرق الى رئاسة مركز الدروس العسكرية العالية، وذلك بعد مضي نحو سنة ونصف السنة على وجوده في بلادنا، وحل محله الجنرال سراي، فجاء ويغان الى بكركي مودعا البطريرك.
 

شارع ويغان في بيروت.